أضحى تغير المناخ قضية الساعة الأكثر تداولاً على جميع المنصات الإعلامية بدون منازع، وأصبح لا مفر من مناقشتها و الحديث عنها.
ولكن السبب الأكثر منطقية في تناول مواضيع البيئة و أزماتها العديدة هو الخطورة التي تتسم بها كواحدة من أعظم التحديات التي تواجهها البشرية حاليًا، لأنه و بدون أدنى مبالغة ـ حياة و مستقبل كل كائن حي على سطح الأرض تعتمد على مناخ معتدل و بيئة مستدامة وهو الشيء الذي قطعًا بدأنا في فقدانه منذ عقود عديدة.
وإذا لاحظت ذلك عزيزي القارىء فإن قسم كبير من موقعنا مخصص لتثفيفك حول القضايا البيئية وهو جزء من رسالتنا المعلنة عن التقليل من النفايات بجميع أنواعها بهدف الحفاظ على البيئة من خلال القيام بالإصلاحات اللازمة في منزلك و عمليات التدوير لكي تتجنب الوقوع في فخ الإدمان على الاستهلاك الذي أثبتت الدراسات علاقته الوطيدة بأزمة تغير المناخ و هو الشيء الذي سنعمل على توضيحه في هذا المقال.
تغيّر المناخ و الاحتباس الحراري ظواهر طبيعية، فلماذا كلّ هذا الهلع العالمي؟

معظم الناس لا يعرفون أن تغير المناخ في حد ذاته هو ظاهرة طبيعية، تتضمن تقلبات مناخية تحصل نتيجة عوامل طبيعية مثل التغيّرات في كثافة الشمس، تغيّرات بطيئة في دوران الأرض حول الشمس والتغيرات في دورة المياه في المحيط، بالإضافة إلى الزيادة أو النقصان في الأنشطة الجيولوجية والبركانية أو الإشعاع الشمسي وغيرها من الأسباب الطبيعية التي تؤدي إلى تأثيرات يمكن قياسها علميًا على مدار عقود أو فترات زمنية أطول من ذلك، حتى يتمكن العلماء من معرفة الأنماط المناخية للأرض وبالتالي التمكن من رصد أي خلل في سلوك الأرض المناخي.
وقد مر كوكب الأرض بتغيرّات مناخية على مر عصور جيولوجية ذات خصائص متقلبة بين دورات البرودة والدفء. يُستخدم مصطلح ‘التغير المناخي’ عند الإشارة إلى تأثيرات واسعة و شاملة من بينها ارتفاع درجة الحرارة.
أصبح تغيّر المناخ حديث الساعة نظرًا للكوارث الطبيعية التي باتت تحصل بوتيرة غير مسبوقة في السنوات الأخيرة كالسيول والفيضانات وحرائق الغابات في الأمازون وأستراليا وأماكن أخرى حول العالم، وكلها تمظهرات لتغير المناخ المرتبط بشكل رئيسي بالاحتباس الحراري الذي حذّر منه العلماء منذ عقود، بتنا نراه ونعيش آثاره في حياتنا للأسف، وأي مُنْكِر لهذا فهو جاهل لا محالة.
إذا كان تغير المناخ ظاهرة طبيعية يتعرض لها كوكب الأرض فمن المهم جداً معرفة بأن تأثيراته الحالية هي نتيجة عوامل سببها النشاط البشري الصناعي بالتحديد أكثر من عوامل طبيعية وهنا تكمن كل الخطورة وهذا ما يفسّر نوبات الهلع والاحتجاجات البيئية وتحذيرات العلماء ونشطاء البيئة في كل مكان في أنحاء المعمورة لأن لهذا الأمر تداعيات كارثية ذات أبعاد اقتصادية، سياسية واجتماعية مُصاحبة بحيث لا يمكن فصل الإنسان عن الأنظمة التي يعيش فيها.
تمظهرات أزمة المناخ وتنبؤات العلماء
الآثار الملحوظة إلى حدود الساعة والمُتوقعة في السنوات القادمة للتغير المناخي التي تنبأ بها العلماء في الماضي تتمثل في:
- فقدان الجليد البحري
- موجات جفاف وحرارة حادة وتصحر مساحات أرضية واسعة
- مواسم زراعية أطول واختلال مواعيد نضج الثمار
- تغيّرات في أنماط تساقط الأمطار
- وتيرة مرتفعة للأعاصير العنيفة
- ارتفاع منسوب مياه البحر بسبب ذوبان الثلوج وانحسار الأنهار الجليدية
- انهيارات التربة والأرض
- أحوال طقس متطرّفة وغير متوقعة أو طبيعية
- ارتفاع احتمالات التلوث وانتشار الأمراض والأوبئة
- تأثر التنوع البيولوجي الذي يعرّض الحيوانات للانقراض
الآثار الهدّامة للتغيّر المناخي على الاستقرار البشري
ترى ما الذي يمكن أن تحمله هذه الآثار من تحديّات متنامية وتهديدات مباشرة للاستقرار البشري في الحاضر والمستقبل القريب؟!
تؤثر موجات الحر، وهطول الأمطار الغزيرة وارتفاع مستوى سطح البحر بشكل مباشر على البنية التحتية والزراعة والثروات السمكية وتعرّض النظم الإيكولوجية للخطر بشكل متزايد.
كما تؤدي زيادة حرائق الغابات و تفشي الحشرات والأوبئة إلى موت الأشجار على نطاق واسع.
والمتأثر الأول على الأرجح من موجات الحرارة هو الصحة العامة للإنسان وجميع سُبل ووسائل عيشه مثل المنتجات الزراعية، جودة الهواء والمياه مع ارتفاع احتمالات انخفاض إمدادات هذا الأخير مما سوف يخلق آثار اقتصادية وبيئية مهولة ستُجبر جماعات كبيرة من الأفراد على الهجرة من مكان إلى آخر بحثًا عن ظروف عيش واستقرار بيئي وقد حذّر علماء البيئة من بزوغ ما يُسمى باللاجئين البيئيين.
وقد يُذكرنا هذا بما حصل جرّاء حرائق أستراليا التي اضطرّت ملايين المواطنين إلى الهروب إلى الشواطئ والمناطق المائية، لا مجال للمقارنة لأن ما هذا سوى عيّنة صغيرة جدًّا مما يمكن أن يحصل على نطاق أوسع بكثير بسبب الآثار الهدّامة للتغيّر المناخي الذي لعبت فيه يد الإنسان دور جَلل.
مقالات ذات صلة:
- كل ما تحتاج أن تعرفه عن تغير المناخ، أسبابه وآثاره المدمّرة
- حرائق الغابات تُنذر بالسوء إن لم نتوقف عن أَذِيَّة هذا الكوكب!
- إليك 20 طريقة سهلة وبسيطة لتعيش حياة أكثر استدامة وتكافح الاحتباس الحراري
العلاقة العلمية الوطيدة بين الاحترار العالمي والنشاط البشري

وإذا وضعنا نصب أعيننا أن ظاهرة الاحتباس الحراري أو ما يصطلح عليه أيضًا بالإحترار العالمي هي جزء من ظاهرة أكبر وأشمل وهي التغيّر المناخي، علينا إذن أن نعرف أن هناك علاقة مباشرة ورابطة علمية راسخة بين التراكم غير الطبيعي لانبعاثات غازات الدفيئة المسببة لها والأنشطة البشرية المتمحورة حول التصنيع، إزالة الغابات، الزراعة الواسعة النطاق و النشاط الصناعي بشكل رئيسي.
وحتى نكون على دراية بكل هذا فإن الاحتباس الحراري المُتولّد بشكل طبيعي ضروري لبقاء الكائنات الحية في ظروف صالحة للعيش على الأرض، فغازات الدفيئة المتكونة بشكل أساسي من بخار الماء، ثاني أكسيد الكربون وغاز الميثان متواجدة طبيعيًّا في الغلاف الجوي وتُساهم في امتصاص جزء من الأشعة تحت الحمراء في الأرض الناتجة عن انعكاس أشعة الشمس وبالتالي فإنها تُحافظ على توازن درجات الحرارة.
إلا أن هذا التوازن قد اختل تدريجيًّا كتبعات للحقبة الصناعية حيث ارتفع متوسط درجات الحرارة العالمية بمقدار 0.85 درجة مئوية من 1880 إلى عام 2012 حسب التقريرات الصادرة عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ IPCC.

فما يحدث هو أن الإشعاعات تحت الحمراء ترتد نظرًا للتركيزات العالية والانبعاثات المستمرة من غازات الدفيئة التي تشكل غطاء حول الأرض أشبه بسقف بيت زجاجي لذلك سُميت بغازات الدفيئة نسبة إلى البيوت أو الدفيئات الزجاجية المخصصة للزراعة، مما يؤدي إلى حبس السخونة ورفع درجة حرارة طبقات الغلاف الجوي السفلي وسطح الأرض.
وبالتالي يمكننا بسهولة بالغة أن نستنتج ودون الحاجة لخلفية علمية أن أيّ نشاط بشري لحقب زمنية طويلة يتولّد عنه إنتاج المزيد من النسب غير الطبيعية لغازات الدفيئة مثل غاز الميثان وثاني أكسيد الكربون من شأنه أن يكون السبـب المُبـاشر في الاحتباس الحراري وأزمة المناخ عمومًا.
عادات الاستهلاك هي المحرّك الأكبر للاحتباس الحراري
حين أصبح الجميع يدرك جيداً هذا الوضع الشائك المتمثل في الدور الحاسم الذي تلعبه اليد البشرية في تدمير البيئة، صارت المهمة الأولى والأخيرة لإنقاذ الكوكب هي التقليل من انبعاثات غازات الدفيئة بأسرع وقت ممكن حتى لا تتحقق الكارثة التي لطالما حذّر منها العلماء. ولكن بقي السؤال؛ كيف السبيل إلى ذلك؟! وما الذي سيشكل فارقا كبيرًا في معركتنا ضد الوقت و الاحتباس الحراري؟!
من المعروف أن جميع القطاعات الاقتصادية التي تقوم على السلع والخدمات هي المُساهم الأول في انبعاثات غازات الدفيئة؛ وسائل النقل الجوي والبري، خدمات الكهرباء بسبب محطات توليد الطاقة من الفحم والغاز الطبيعي، البناء والزراعة… كلها مساهمة بنسب متفاوتة.

ولكن عوض النظر لهذه المساهمات في كل قطاع اقتصادي، من الأجدر النظر للمحرك الفعلي وراء نمو وازدهار هذه القطاعات مع الوقت والذي على أساسه وُجدت أساسًا ألا وهو المستـهلك الذي يطالب بمنتجاتها وخدماتها، فالعرض مرهون بالطلب دائمًا.
من السهل جدًا إلقاء اللوم على الحكومات، المؤسسات أو الصناعات، فهذا يُريحنا من تحمل المسؤولية إذا علمنا أنه ليس علينا أن نقوم بمجهود ولكن هذا الأمر لن ينفعنا هنا لأن كل الدراسات والبحوث تثبت مرة تلو الأخرى أن العادات الاستهلاكية و كل أنواع الأشياء التي نطلبها و نقتنيها ونستهلكها بشكل رئيسي داخل المنزل أو خارجه تشكل نسبة تتراوح بين 50 و 60 في المئة من الانبعاثات العالمية لغازات البيت الزجاجي أو الدفيئة.
انطلاقًا من السفر عبر وسائل النقل التي تبث المزيد من الكربون في الجو، الإلكترونيات التي نعتمد عليها بشكل هوسي في حياتنا اليومية، وسائل الترفيه المتنوعة، الطعام والمنتوجات الغذائية والملابس الجاهزة إلى جانب قطاعات كاملة من الأغراض التي تعوّدنا على استهلاكها وكأنها غير قابلة للإستغناء عنها في حين أنها مجرد كماليات تستنزف ميزانياتنا بمبالغ مالية كبيرة وتُغرق الكوكب بالمزيد من غازات الدفيئة.
كوارث الهدر الغذائي في العالم والوطن العربي
تحذّر الأمم المتحدة بأن مخلفات الطعام لوحدها ساهمت بنسبة 8 إلى 10 في المئة من انبعاثات البيت الزجاجي العالمية في الفترة بين 2010-2016، وتحثّ على ضرورة تغيير أنظمتنا الغذائية وأساليب استهلاكنا الطعام.

يدخل الأكل في مكونات الثقافة والهوية لكل بلد، وهو بالتأكيد عنصر جوهري في الروتين والعادات اليومية في الوطن العربي، ويحمل في طيّاته أكثر من التغذية فقط لإشباع الجوع، فهو السبب غير المباشر والمباشر في لمّة العائلة والأحباب، لقاء الأصدقاء، طقوس الترحيب بالضيف وإبداء العناية والاهتمام به، حتى أنه يدخل في ثقافة فهم وإدارة العلاقات، فالمرأة والأم العربية تُصر دائمًا على أن أقصر طريق إلى قلب الرجل معدته، واحدة من الأفكار السائدة التي تؤكد أن الأكل يحتل مكانة بالغة الأهمية في كل بلد عربي.
ولكن إذا كان هذا الشيء الذي نفتخر به يسبب أضرارًا بيئية لا تعد ولا تحصى، فهل سنستمر في ممارسته بنفس الطريقة؟ إنقاذ الكوكب في أقصر مدة ممكنة يتوقف فعلًا على إعادة تشكيل علاقتنا بالطعام وكيفية استهلاكه بطرق تضمن لنا المتعة، التغذية والحفاظ على البيئة.
الإحصائيات العالمية فيما يخص الهدر الغذائي كارثية بجميع المقاييس، فما يعادل حوالي 1.3 مليار طن من الخضار، الفواكه، منتجات الألبان واللحوم إضافة إلى المأكولات البحرية والحبوب التي لم تصل بعد إلى يد المستهلك أو رفوف المحلات يتم التخلص منها لأنها تالفة أو أنها لا تتماشى مع المعايير التي تفرضها محلات السوبرماركت، وهي معايير لا تخص سلامتها أو قابليتها للاستهلاك البشري بل تخص معايير جمالية في غالب الأحيان، فحبة بطاطس مُحدَودَبة الشكل أو تفاحة بها بعض الكدمات الطفيفة مثلًا مصيرها التعفن لا محالة.
هذا الأمر يحصل أيضاً مع منتجات غذائية مصنعة مازالت صالحة تمامًا للأكل يتم إلقاؤها في حاويات القمامة بكل سهولة فيكون مصيرها التلف أيضاً رغم أن تاريخ صلاحيتها مازال جاريًا، من الصادم فعلاً معرفة أن هذه ممارسة جاري بها العمل في جميع محلات السوبرماركت في أي مكان في العالم، فأينما توجد محلات كبرى توفر الطعام والمنتجات الغذائية سوف يكون هناك أطنان من الهدر الذي لا يراه المستهلك عادة ولا يعرف أبداً بوجوده.

في برنامج لقناة CBC News الكندية يعود لثلاث سنوات مضت، قام فريق البرنامج بزيارة مكبات نفايات أشهر محل سوبرماركت في كندا وأمريكا بهدف التحقيق في فضائح الهدر الغذائي الذي تقدر بالبلايين من الدولارات التي تذهب في التبديد والضياع الممنهج، والأسوأ من الجانب الأخلاقي لهذه الكوارث المتمثل في أن أكثر من 820 مليون شخص حسب إحصائيات منظمة الأغذية والزراعة في 2019 يعانون من الجوع في ظل انعدام توزيع عادل للثروات وارتفاع وتيرة الاستهلاك بشكل مُتوحش في الدول المتقدمة والنامية على حد سواء، هناك كارثة البيئة التي تزداد تأزمًا بسبب مخلفات الطعام.
فلنكن واقعيين، ما يفضحه هذا البرنامج على CBC News ليس ظاهرة تخص الدول الغربية فقط، هي موجودة في العالم العربي أيضاً، دعونا لا نذهب بعيدًا، فمن خلال شهر واحد في السنة نستطيع أن نخمن كميات الأغذية الهائلة التي يتم إلقاؤها كسياسة تقديم الأفضل فقط للصائمين في رمضان من طرف محلات السوبرماركت.
إلى الآن لم نتحدث سوى عن نفايات الطعام التي يتم هدرها فقط قبل الوصول إلى يد المستهلك، أي في المزارع بدءاً من الحصاد، الذبح والصيد، و على طول سلسلة الإمداد وأثناء عمليات التوزيع، وفي مرحلة البيع بالتجزئة أي في السوبرماركت ومحلات البقالة. فما بالك بما يحصل من ضياع داخل المنازل، حين ننتهي من التسوق وجلب كل الحاجيات والاغراض التي نعتقد أننا نرغب بها ونريد تناولها، عمل طبق شهي أو التحضير لوليمة يجتمع حولها الأصحاب والأحباب، هل نستخدم بالفعل كل ما نشتريه أو نتناول كل ما نُحضّره من وجبات وأكلات؟! أم أن علاقتنا بالطعام تكاد تصبح مَرضية؟!
فوفقًا لورقة بحثية بعنوان “تشجيع الحلول المبتكرة للحد من فقد وهدر الطعام في المناطق ذات المناخ الحار”، تقدّر نسبة نفايات الطعام في الدول العربية بحوالي 34 % في مرحلة الاستهلاك، حيث يتم الهدر بشكل أكبر في المناسبات والتجمعات العائلية. ويُفيد تقرير مشهور نشرته مجلة «الإيكونوميست» البريطانية السنة الماضية عن دراسة أجرتها وحدة المعلومات التابعة لها سنة 2016 أن 427 كيلو جرامًا من الطعام للفرد الواحد يتم التخلص منه سنويًا في مكب النفايات في السعودية ، وما يقرب 55% من القمامة في مدينة دبي الإماراتية هو من الطعام المُهدرفي شهر رمضان بينما تزداد المخلفات الغذائية في البحرين بمقدار نصف طن يوميًا.
مخلفات الطعام والأغذية تُسدّد ضربات مُميتة لصحة الكوكب
قد تكون فكرتنا عن الطعام الطازج مغلوطة وذات تبعات اقتصادية وبيئية خطيرة، كلما فتحنا باب الثلاجة لتفقد ما يمكن تناوله من الأطعمة قد نتفاجأ ببعض العلب البلاستيكية لبقايا أكل كنا قد نوينا استهلاكه آنذاك ‘فيما بعد’، ولكن الحقيقة القبيحة وراء هذا المشهد الذي قد يتكرر عشرات المرات في الأسبوع أو أكثر هي أن محتوى تلك العلب يذهب مباشرة إلى أقرب حاوية نفايات نجدها أمامنا حين يصل وقت ذاك ال’فيما بعد’.
فبالرغم من نيتنا الحسنة في التوفير وعدم الهدر، قد نفشل في أغلب الوقت في تحقيق تلك النية على أرض الواقع، فلا أحد يحب الطعام البائت، ناهيك عن أضرار تسخينه، نريد الجديد، الطري والطازج الشهي ولا يهم مهما كلف الأمر .

ولن ننس كل تلك الممارسات الأخرى أيضاً التي ننظر لها بعين من الإيجابية تمامًا مثل شراء كميات كبيرة من الأكل وتكديس الثلاجات بها، وإعداد القناطير المقنطرة سنويًا من الولائم للترحيب بضيوفنا. لا نتسائل ولا مرة عن مصير مخلفات الطعام التي ننتجها يوميًا! إنها تذهب إلى مدافن القمامة ذات المساحات الشاسعة لتتعفن هناك وتطلق غاز مسبب للاحتباس الحراري الذي يهددنا.
نعم فالتحلّل الذي يصيب نفايات الطعام لا يُصدر رائحة نتنة فقط بل يصدر غاز الميثان 28 مرة أكثر مما يُصدره من ثاني أكسيد الكربون، و يعد الميثان من أخطر غازات الدفيئة على كوكب الأرض الذي يمتصه الغلاف الجوي ويلعب حينها دورًا حاسمًا في الرفع من حرارة الأرض عن طريق تأثير البيت الزجاجي.


وفي الوطن العربي بالخصوص تأثيرات تغيّر المناخ باتت واضحة ومقنعة للجميع ولا سبيل للتشكيك بها بعد الآن، فالمنطقة عرفت في السنوات الأخيرة ارتفاع كبير في درجات الحرارة و زيادة في حدوث ظواهر مناخية قصوى مثل الجفاف والفيضانات السريعة، حيث سجلت الكويت لوحدها أرقامًا قياسية في السنوات الأخيرة، إلى جانب مسألة شح المياه الذي يشكل أكبر تحديات المنطقة فهي تمتلك موارد مياه ضعيفة مقارنة بباقي مناطق العالم.

إن تأثيرات تغيّر المناخ لا تنحصر في موجات الحرارة، الجفاف والتصحر، بل إن لها تأثيرات على المدى الطويل كاندلاع الحروب والهجرة القسرية بسبب الكوارث الطبيعية وانخفاض مستويات الدخل، الهدف من التذكير بكل هذا ليس تهويل الأمور وإثارة الفزع، إنما هو تذكير بمسؤوليتنا اتجاه أنفسنا، مستقبلنا وبالتأكيد مستقبل أبنائنا.
فهل فعلاً ممارسات قد تبدو نوعًا ما مقدور عليها بإمكانها التقليل من انبعاثات الدفيئة؟ ‘نعـم’ قالها مجموعة من الباحثين في ما يسمى Project Drawdown الذين قاموا بتصنيف حلول جذرية للاحتباس الحراري، وكانت المفاجأة أن خفض نسبة نفايات الطعام له نفس التأثير تقريبًا على خفض الانبعاثات على مدار العقود الثلاثة القادمة بسبب عوامل أخرى مجتمعة، أي أن هذا هذا السلوك هو من أكثر الأمور التي سوف تشكّل الفارق الأكبر حيث يمكن منع إطلاق مايقارب 70 مليار طن من غازات الدفيئة في الجو.
الحلّ في يد المستهلك؛ قلّل الشراء وأعد تدوير بقايا طعامك
تخبرنا التقارير أنه إذا ما بقيت الانبعاثات القائمة على الاستهلاك على شكلها الحالي فإنها ستتضاعف على الأغلب من 4.5 إلى 8.4 جيجا طن في الفترة بين 2017 و 2050 حسب إحصائيات وكالة حماية البيئة الأمريكية العام الماضي، مما يعني أننا لن نتمكن من بلوغ تخفيضات حرارة أقل من 1.5 درجة مئوية الكفيلة بإبقاء العالم صالح للعيش من أجل جميع الكائنات الحية. وحتى يتحقق ذلك من الضروري جداً تقليل الانبعاثات القائمة على الاستهلاك بنسبة 50 في المئة بحلول 2030 و نسبة 80 في المئة في عام 2050 حسب ما جاء في نفس التقرير.
وهي بالتأكيد أرقام كبيرة ليست بسهلة التحقيق والتي تتطلب تدخلات عاجلة من الحكومات والكيانات السياسية إضافة إلى ضرورة تقدم العلوم والبدائل المبتكرة لإيجاد الحلول من طرف العلماء و الباحثين وكذا الأفراد و المؤسسات و القطاعات الصناعية.
ولكن ما يمكن أن يقوم به هؤلاء لن يكون أبدأ بحجم الأهمية التي تتسم بها المجهودات التي يمكن أن يقوم بها المستهلكون أنفسهم، لأنهم يملكون القدرة على تغيير أنظمة اقتصادية بأكملها من خلال تغيير و إعادة بناء علاقة صحية ومستدامة مع التسوق وعادات الاستهلاك المزمنة.
ومن جهة أخرى علينا أن ندرك جميعاً أن الطعام والمنتجات الغذائية لوحدها لا تمثل مجموع الأشياء التي نستهلكها يومياً وتؤذي هي أيضاً البيئة، باقي المتهمين في قضية المناخ الشائكة كُثر ، فقطاع الملابس الجاهزة ومستحضرات التجميل لوحده يستنزف الموارد الطبيعية للأرض بشكل رهيب، قطع الأثاث والمفروشات، الإلكترونيات، مواد التنظيف المنزلية…وكل ما يأتي مع ذلك من عناصر التغليف والتعليب التي يكون البلاستيك القاتل المكون الرئيسي فيها.
فتزدحم مدافن النفايات بمخلفات الأغذية وكذلك البلاستيك وباقي النفايات التي إما تأخذ وقتاً طويلاً للتحلل والاختفاء من على وجه الأرض أو تتحلّل بإصدار شتى أنواع الغازات حسب المواد السامة التي دخلت في تصنيعها.
الحل ليس سهلاً ويتطلب تضحيات شخصية من طرف المستهلك، تغيير جذري لأنماط عيش تعوّدنا عليها و اعتبرناها من سمات الحياة المعاصرة يجب أن تتفتت إذا كانت مُضرّة.

قلّل الشراء: هناك العديد من الطرق العملية للقيام بهذا تدريجياً فقد يأخذ من أسابيع إلى شهور أو أكثر، عمل خطة قبل الذهاب إلى المتجر أو محل البقالة أو السوبرماركت ضروري جداً . كما أن التوجه إلى هناك بمعدة فارغة يمكن أن يجعلك تشتري أكثر من احتياجاتك الحقيقة. تعرف أكثر على مفهوم التسوق الذكي من خلال المقال الآتي حتى توفر مصاريف أكثر وتحقق هدف تقليل الشراء من أجل البيئة.

إعادة التدوير: هي واحدة من أنجع الطرق لمحاربة آثار الاحتباس الحراري، وقد باتت هذه الثقافة تُعرف على نطاق أوسع عالميًا وملايين من الأشخاص يقومون بها بشكل فردي ويساعدون آخرين على اعتمادها في أسلوب معيشتهم، فالبنسبة لبقايا الطعام ومخلفات الأغذية، يعتبر الكمبوست حيلة غاية في الذكاء للاستفادة من مشترياتك من الأكل بطريقة أخرى توفر لك تربة وسماد طبيعي غني للقيام بأنشطة زراعية والإعتناء بحديقتك أو النباتات في البلكونة، فالكمبوست يقلّل بشكل هائل وملحوظ من نفايات الأغذية ويجعلك تشعر أنك تساهم بشكل حقيقي وملموس في مهمة الحفاظ على الكوكب صالحاً للعيش. يمكنك اكتشاف خطوات عمل كمبوست بنفسك في الرابط تحته.
قدمنا من خلال هذا التقرير المفصّل العلاقة التي تجمع بين أزمة تغير المناخ و العادات الاستهلاكية، مع الإحصائيات والحقائق العلمية المحضة التي لا يمكن لأحد التشكيك بها في محاولة للتملص من تحمل المسؤولية فيما يجري، تقليل الاستهلاك وإعادة التدوير من أهم الخطوات التي يمكن لأي شخص القيام بها.
وسوف نقدم في مقالاتنا القادمة طرق عملية معمّقة أكثر لمحاربة الهدر الغذائي بنفسك و دليل شامل لإعادة استخدام مشترياتك بشكل عام و بقايا الطعام بالتحديد من خلال إدارة معقلنة ومستدامة لمواردك وحفاظاً على جيبك وبيئتك.
المراجع: